فصل: ومن باب القدر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم السنن



.ومن باب القدر:

قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «القدَرية مجوس هذه الأمة إن مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم».
قال الشيخ: إنما جعلهم مجوسًا لمضاهاة مذهبهم مذهب المجوس في قولهم بالأصلين وهما النور والظلمة يزعمون إن الخير من فعل النور، والشر من فعل الظلمة فصاروا ثانوية، وكذلك القدرية يضيفون الخير إلى الله عز وجل والشر إلى غيره والله سبحانه خالق الخير والشر لا يكون شيء منهما إلاّ بمشيئته. وخلقه الشر شرًا في الحكمة كخلقه الخير خيرًا، فالأمران معًا مضافان إليه خلقًا وإيجادا وإلى الفاعلين لهما من عباده فعلًا واكتسابًا.
قال أبو داود: حدثنا مسدد بن مسرهد حدثنا المعتمر قال: سمعت منصور بن المعتمر يحدث عن سعد بن عبيدة عن عبد الله بن حبيب أبي عبد الرحمن عن علي كرم الله وجهه قال: «كنا في جنازة فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ببقيع الغَرْقد فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس ومعه مخصرة فجعل ينكث بالمخصرة في الأرض ثم رفع رأسه فقال ما منكم من أحد ما من نفس منفوسة إلاّ وقد كتب مكانها من النار أو الجنة إلاّ قد كتبت شقية أو سعيدة، قال فقال رجل من القوم يا نبي الله أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل فمن كان من أهل السعادة ليكونن إلى السعادة، ومن كان منا من أهل الشقوة ليكونن إلى الشقوة، قال اعملوا فكل ميسر، أما أهل السعادة فييسرون للسعادة، وأما أهل الشقوة فييسرون للشقوة ثم قرأ نبي الله صلى الله عليه وسلم: {فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى، وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى} [الليل: 5- 10]».
قال الشيخ: المخصرة عصا خفيفة يختصر بها الإنسان يمسكها بيدها والنفس المنفوسة هي المولودة، والمنفوس الطفل الحديث الولادة، يقال نُفست المرأة إذا ولدت، ونفست إذا حاضت، ويقال إنما سميت المرأة نفسًا لسيلان الدم، والنفس الدم.
قلت: فهذا الحديث إذا تأملته أصبت منه الشفاء فيما يتخالجك من أمر القدر وذلك أن السائل رسول الله صلى الله عليه وسلم والقائل له أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل لم يترك شيئًا مما يدخل في أبواب المطالبات والأسئلة الواقعة في باب التجويز والتعديل إلاّ وقد طالب به وسأل عنه فأعلمه صلى الله عليه وسلم أن القياس في هذا الباب متروك والمطالبة عليه ساقطة وأنه أمر لا يشبه الأمور المعلومة التي قد عقلت معانيها وجرت معاملات البشر فيما بينهم عليها وأخبر أنه إنما أمرهم بالعمل ليكون أمارة في الحال العاجلة لما يصيرون إليه في الحال الآجلة فمن تيسر له العمل الصالح كان مأمولًا له الفوز، ومن تيسر له العمل الخبيث كان مخوفًا عليه الهلاك، وهذه أمارات من جهة العلم الظاهر وليست بموجبات فإن الله سبحانه طوى علم الغيب عن خلقه وحجبهم عن دركه كما أخفى أمر الساعة فلا يعلم أحد متى أبان قيامها؛ ثم أخبر على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض أماراتها وأشراطها فقال: «من أشراط الساعة أن تلد الأمة ربتها وأن ترى الحفاة العراة العالة يتطاولون في البنيان» ومنها كيت وكيت.
قال أبو داود: حدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا كهمس، عَن أبي بريدة عن يحيى بن يعمر قال: كان أول من قال بالقدر بالبصرة معبد الجهني فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين أو معتمرين فوفق لنا عبد الله بن عمر رضي الله عنه فقلت أبا عبد الرحمن أنه قد ظهر قبلنا ناس يقرؤون القرآن ويتقفرون العلم يزعمون أن لا قدر والأمر أُنُف فقال إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وهم براء مني والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبًا فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر. ثم قال: حدثني عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: «بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا نعرفه حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه وقال يا محمد أخبرني عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام أن تشهد أن لا إله إلاّ الله وأن محمدًا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا، قال صدقت، قال فعجبنا له يسأله ويصدقه، قال فأخبرني عن الإيمان قال أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره، قال صدقت، قال فأخبرني عن الإحسان قال أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، قال فأخبرني عن الساعة، قال ما المسئول عنها بأعلم من السائل، قال فأخبرني عن أماراتها، قال أن تلد الأمة ربتها وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان، قال ثم انطلق فلبثت ثلاثًا ثم قال يا عمر تدري من السائل، قلت الله ورسوله أعلم، قال فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم».
قال الشيخ: قوله يتقفرون العلم معناه يطلبون ويتبعون أثره، والتقفر تتبع أثر الشيء. وقوله والأمر أنف يريد مستأنف لم يتقدم فيه شيء من قدر أو مشيئة، يقال كلأ أنف إذا كان وافيًا لم يرع منه شيء. وروضة أنف بمعناه، قال عمر بن أبي ربيعة:
في روضة أنف تيممنا بها ** ميثاء رائقة بُعيد سماء

وفي قول ابن عمر رضي الله عنهما إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وهم براء مني دلالة على أن الخلاف إذا وقع في أصول الدين وكان مما يتعلق بمعتقدات الإيمان أوجب البراءة وليس كسائر ما يقع فيه الخلاف من أصول الأحكام وفروعها التي موجباتها العمل في أن شيئًا منها لا يوجب البراءة ولا يوقع الوحشة بين المختلفين فقد جاء في هذا الحديث التفريق بين الإسلام والإيمان فجعل الإسلام في العمل والإيمان في الكلمة على ضد ما قاله الزهري في حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه الذي ذكرناه في الباب، فقال يرى الإسلام الكلمة والإيمان العمل.
قلت: وهذا عندي تفصيل لجملة كلها شيء واحد وليس بتفريق بين شيئين مختلفين، وقد روينا في باب قبل هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما «أن وفد عبد القيس قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرهم بالإيمان ثم قال أتدرون ما الإيمان قالوا الله ورسوله أعلم، فقال شهادة أن لا إله إلاّ الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة؛ وصوم رمضان، وأن تعطوا الخمس من المغنم». فضم هذه الأعمال إلى كلمة الشهادة وجعلها كلها إيمانًا، وهذا يبين لك أن اسم الإيمان قد يدخل على الإسلام واسم الإسلام يدخل على الإيمان، وذلك لأن معنى الإيمان التصديق ومعنى الإسلام الاستسلام، وقد يتحقق معنى القول بفعل الجوارح ثم يتحقق الفعل ويصح بتصديق القلب نية وعزيمة، وجماع ذلك كله الدين، وهو معنى قوله: «جبريل أتاكم يعلمكم دينكم».
وأما قوله: «ما الإحسان» فإن معنى الإحسان هاهنا الإخلاص وهو شرط في صحة الإيمان والإسلام معًا، وذلك أن من وصف الكلمة وجاء بالعمل من غير نية وإخلاص لم يكن محسنًا ولا كان إيمانه في الحقيقة صحيحًا كاملًا وإن كان دمه في الحكم محقونًا وكان بذلك في جملة المسلمين معدودًا.
ويحكى عن سفيان بن سعيد الثوري أنه كان يقول في الإيمان قول ومعرفة وعمل ونية، وأحسبه تأول هذا المعنى واعتبره بالحديث.
وكان أحمد بن حنبل يزيد فيها شرطًا خامسًا وهو السنة فيقول: في الإيمان قول ومعرفة وعمل ونية وسنة.
قلت: واسم الإسلام يشتمل على هذه الخصال كلها، ألا تراه يقول هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم، وقد قال سبحانه: {إن الدين عند الله الإسلام} [آل عمران: 19].
وقوله: «وأن تلد الأمة ربتها» معناه أن يتسع الإسلام ويكثر السبي ويستولد الناس أمهات الأولاد فتكون ابنة الرجل من أمته في معنى السيدة لأمها إذ كانت مملوكة لأبيها، وملك الأب راجع في التقدير إلى الولد.
وقد يحتج بهذا من يرى بيع أمهات الأولاد ويعتل في أنهن إنما لا يبعن إذا مات السادة لأنهن قد يصرن في التقدير ملكًا لأولادهن فيعتقن عليهم لأن الولد لا يملك والدته وهذا على تخريج قول وأن تلد الأمة ربتها وفيه نظر.
والعالة الفقراء واحدهم عائل يقال عال الرجل يعيل إذا افتقر. وعال أهله يعولهم إذا مار أهله، وأعال الرجل يعيل إذا كثر عياله.
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار سمع طاوسًا يقول: سمعت أبا هريرة يخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «احتج آدم وموسى، فقال موسى يا آدم إنك أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة، فقال آدم أنت موسى اصطفاك الله بكلامه وخط لك، يَعني التوراة بيده تلومني على أمر قد قدره الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة فحج آدم موسى».
قال الشيخ: قد يحسب كثير من الناس أن معنى القدر من الله والقضاء منه معنى الإجبار والقهر للعبد على ما قضاه وقدره ويتوهم أن فلج آدم في الحجة على موسى إنما كان من هذا الوجه، وليس الأمر في ذلك على ما يتوهمونه، وإنما معناه الإخبار عن تقدم علم الله سبحانه بما يكون من أفعال العباد وإكسابهم وصدورها عن تقدير منه وخلق لها خيرها وشرها، والقدر اسم لما صدر مقدرًا عن فعل القادر كما الهدم والقبض والنشر أسماء لما صدر عن فعل الهادم والقابض والناشر، يقال قدرت الشيء وقدرت خفيفة وثقيلة بمعنى واحد، والقضاء في هذا معناه الخلق كقوله عز وجل: {فقضاهن سبع سموات في يومين} [فصلت: 12] أي خلقهن وإذا كان الأمر كذلك فقد بقي عليهم من وراء علم الله فيهم أفعالهم وإكسابهم ومباشرتهم تلك الأمور وملابستهم إياها عن قصد وتعمد وتقديم إرادة واختيار، فالحجة إنما تلزمهم بها واللائمة تلحقهم عليها.
وجماع القول في هذا الباب أنهما أمران لا ينفك أحدهما عن الآخر، لأن أحدهما بمنزلة الأساس والآخر بمنزلة البناء فمن رام الفصل بينهما فقد رام هدم البناء ونقضه، وإنما كان موضع الحجة لآدم على موسى صلوات الله عليهما أن الله سبحانه إذ كان قد علم من آدم أنه يتناول الشجرة ويأكل منها فكيف يمكنه أن يرد علم الله فيه وأن يبطله بعد ذلك. وبيان هذا في قول الله سبحانه: {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة} [البقرة: 30] فأخبر قبل كون آدم أنه إنما خلقه للأرض وأنه لا يتركه في الجنة حتى ينقله عنها إليها وإنما كان تناول الشجرة سببًا لوقوعه إلى الأرض التي خلق لها وللكون فيها خليفة وواليًا على من فيها فإنما أدلى آدم عليه السلام بالحجة على هذا المعنى ودفع لائمة موسى عن نفسه على هذا الوجه ولذلك قال: أتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن يخلقني.
فإن قيل فعلى هذا يجب أن يسقط عنه اللوم أصلًا، قيل اللوم ساقط من قبل موسى إذ ليس لأحد أن يعير أحدًا بذنب كان منه لأن الخلق كلهم تحت العبودية أكفاء سواء. وقد روي لا تنظروا إلى ذنوب العباد كأنكم أرباب وانظروا إليها كأنكم عبيد، ولكن اللوم لازم لآدم من قبل الله سبحانه إذ كان قد أمره ونهاه فخرج إلى معصيته وباشر المنهي عنه، ولله الحجة البالغة سبحانه لا شريك له.
وقول موسى صلى الله عليه وسلم وإن كان منه في النفوس شبهة وفي ظاهره متعلق لاحتجاجه بالسبب الذي قد جعل أمارة لخروجه من الجنة فقول آدم في تعلقه بالسبب الذي هو بمنزلة الأصل أرجح وأقوى، والفلج قد يقع مع المعارضة بالترجيح كما يقع بالبرهان الذي لا معارض له والله أعلم.
قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر النمري حدثنا شعبة (ح) قال: وحدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن الأعمش حدثنا زيد بن وهب حدثنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق «إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يومًا، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم مضغة» وذكر الحديث.
قال الشيخ: قوله: «يجمع في بطن أمه» قد روى في تفسيره عن ابن مسعود حدثناه الأصم حدثنا السري بن يحيى أبو عبيدة حدثنا عمار بن زريق قال: قلت للأعمش ما يجمع في بطن أمه قال: حدثني خيثمة قال: قال عبد الله، إن النطفة إذا وقعت في الرحم فأراد الله أن يخلق منها بشرًا طارت في بشر المرأة تحت كل ظفر وشعر ثم يمكث أربعين ليلة ثم ينزل دمًا في الرحم فذلك جمعها.

.ومن باب في ذراري المشركين:

قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا أبو عَوانة، عَن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أولاد المشركين قال الله أعلم بما كانوا عاملين».
قال الشيخ: ظاهر هذا الكلام يوهم أنه صلى الله عليه وسلم لم يفت السائل عنهم ولأنه رد الأمر في ذلك إلى علم الله جل وعز ومن غير أن يكون قد جعلهم من المسلمين أو ألحقهم بالكافرين وليس هذا وجه الحديث، وإنما معناه أنهم كفار ملحقون في الكفر بآبائهم لأن الله سبحانه قد علم أنهم لو بقوا أحياء حتى يكبروا لكانوا يعملون عمل الكفار. يدل على صحة التأويل قوله في حديث عائشة قالت: «قلت يا رسول الله ذراري المؤمنين فقال من آبائهم فقلت يا رسول الله بلا عمل قال الله أعلم بما كانوا عاملين، قلت يا رسول الله فذراري المشركين قال من آبائهم، قلت بلا عمل قال الله أعلم بما كانوا عاملين».
وقد ذكره أبو داود في هذا الباب فقال: حدثنا عبد الوهاب بن نجدة حدثنا بقية حدثنا محمد بن حرب عن محمد بن زياد عن عبد الله بن أبي قيس عن عائشة رضي الله عنها.
فهذا يدل على أنه قد أفتى عن المسألة ولم يعقل الجواب عنها على حسب ما توهمه من ذهب إلى الوجه الأول في تأويل الحديث.
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك، عَن أبي الزناد عن الأعرج، عَن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يُهوِّدانه ويُنَصرانه كما تناتج الإبل من بهيمة جمعاء هل تُحس من جدعاء. قالوا يا رسول الله أفرأيت من يموت وهو صغير قال الله أعلم ما كانوا عاملين».
ذكر أبو داود في تفسيره عن حماد بن سلمة أنه كان يقول هذا عندنا حيث أخذ الله عليهم العهد في أصلاب آبائهم فقال: {ألست بربكم قالوا بلى} [الأعراف: 712].
قلت: معنى قول حماد في هذا حسَن وكأنه ذهب إلى أنه لا عبرة للإيمان الفطري في أحكام الدنيا، وإنما يعتبر الإيمان الشرعي المكتسب بالإرادة والفعل ألا ترى أنه يقول فأبواه يهودانه وينصرانه فهو من وجود الإيمان الفطري فيه محكوم له بحكم الأبوين الكافرين.
وفيه وجه ذهب إليه عبد الله بن المبارك حين سأل عنه، فقال تفسير قوله حين سئل عن الأطفال فقال الله أعلم بما كان عاملين، يريد والله أعلم أن كل مولود من البشر إنما يولد على فطرته التي جبل عليها من السعادة والشقاوة وعلى ما سيق له من قدر الله وتقدم من مشيئته فيه من كفر أو إيمان فكل منهم صائر في العاقبة إلى ما فطر عليه وخلق له وعامل في الدنيا بالعمل المشاكل لفطرته في الشقاوة والسعادة، فمن أمارات الشقاوة للطفل أن يولد بين يهوديين أو نصرانيين فيحملانه لشقائه على اعتقاد دين اليهود أو النصارى أو يعلمانه اليهودية أو النصرانية أو يموت قبل أن يعقل فيصف الدين فهو محكوم له بحكم والديه إذ هو في حكم الشريعة تبع لوالديه، وذلك معنى قوله: «فأبواه يهودانه وينصرانه».
ويشهد لهذا المذهب حديث عائشة رضي الله عنها «أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بصبي من الأنصار يصلي عليه، فقلت يا رسول الله طوبى لهذا لم يعمل شيئًا ولم يُدر به قال أو غير ذلك يا عائشة إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلًا، وخلقها لهم وهم في أصلاب آبائهم، وخلق النار وخلق لها أهلًا وخلقها لهم وهم في أصلاب آبائهم»، وقد ذكره أبو داود في هذا الباب.
حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن طلحة بن يحيى عن عائشة بنت طلحة عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها.
ويشهد له أيضًا حديث أبي بن كعب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «في قوله تعالى: {وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين} [الكهف: 80] وكان طبع يوم طبع كافرًا».
قلت: وفيه وجه ثالث وهو أن يكون معناه أن كل مولود من البشر إنما يولد في مبدأ الخلقة وأصل الجبلة على الفطرة السليمة والطبع المتهيئ لقبول الدين فلو ترك عليها وخلى وسومها لاستمر على لزومها ولم يفارقها إلى غيرها، لأن هذا الدين موجود حسنه في العقل يسره في النفوس وإنما يعدل عنه من يعدل إلى غيره ويؤثر عليه لآفة من آفات النشوء والتقليد، فلو سلم المولود من تلك الآفات لم يعتقد غيره ولم يختر عليه ما سواه، ثم يمثل بأولاد اليهود والنصارى في اتباعهم لآبائهم والميل إلى أديانهم فيزولون بذلك عن الفطرة السليمة وعن المحجة المستقيمة.
وفيه أقاويل أخر قد ذكرتها في مسألة أفردتها في تفسير الفطرة وفيما أوردته هاهنا كفاية على ما شرطناه من الاختصار في هذا الكتاب.
وأصل الفطرة في اللغة ابتداء الخلق، ومنه قول الله سبحانه: {الحمد لله فاطر السموات والأرض} [فاطر: 1] أي مبتديها، ومن هذا قولهم فطر ناب البعير إذا طلع.
ويروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال لم أعلم ما فاطر السموات حتى اختصم إليَّ أعرابيان في بئر، فقال أحدهما أنا فاطرها أي حافرها ومقترحها.
وقوله من بهيمة جمعاء فإن الجمعاء هي السليمة سميت بذلك لاجتماع السلامة لها في أعضائها يقول إن البهيمة أول ما تولد تكون سليمة من الجدع والخرم ونحو ذلك من العيوب حتى يحدث فيها أربابها هذه النقائص كذلك الطفل يولد مفطورًا على خلقه ولو ترك عليها لسلم من الآفات، إلاّ أن والديه يزينان له الكفر ويحملانه عليه.
قلت: وليس في هذا ما يوجب حكم الإيمان له إنما هو ثناء على هذا الدين وإخبار عن محله من العقول وحسن موقعه من النفوس والله أعلم.